أقامت الجمعية اللبنانية لعلم الإجتماع وبالتعاون مع معهد العلوم الإجتماعية -الفرع الأول، ندوة حوارية حول الأزمة الإقتصادية الراهنة تحت عنوان “الأزمة الإقتصادية الى اين؟ بمشاركة الخبيرين الإقتصاديين الدكتور عبد الحليم فضل الله رئيس المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق، والدكتور كمال حمدان المدير التنفيذي لمؤسسة البحوث والإستشارات، وأدارت الحوار الدكتورة ماريز يونس، التي أكدت على أهمية هذا النشاط الذي يندرج في إطار محاولة فهم الأزمة اللبنانية الراهنة وتحليلها وتفسيرها وصولا الى طرحِ السبلِ والفرص المتاحة للمعالجة، منوهة بأهمية التعاون مع معهد العلوم الإجتماعية – الفرع الأول الذي شكل الحجر الأساس في بنية المعهد، داعية الى تعزيز التكامل بين الجمعية والجامعة اللبنانية، خصوصًا معهد العلوم الإجتماعية، لمأسسة الجهود على مستوى البحث العلمي والإنتاج المعرفي أولاً، ولتجذير الوعي لدى الطلاب بأزمات مجتمعهم الراهنة، ثانيًًا.
بداية كانت مداخلة الدكتور عبد الحليم فضل الله، الذي اعتبر أن مركز الأزمة يكمن في الاقتصاد السياسي، أي في القرار الذي اتخذ من قبل ما سماه “نادي اتخاذ القرار” منذ التسعينيات، لإدارة الإقتصاد بالطريقة التي أوصلتنا الى ما نحن عليه من أزمات. وأبرز هذه القرارات تمثلت بإعادة انتاج اقتصاد ما قبل الحرب الأهلية خارج أي شكل من أشكال التوازنات، ان كان عل مستوى المناطق او الطبقات الإجتماعية او القطاعات الانتاجية، وخصوصًا قطاعي الزراعة والصناعة الذين تراجعت انتاجيتهما الى ١٢ %، بالإضافة الى تراجع انتاجية القطاعات الخدماتية الأخرى التعليمية والصحية والسياحية.
واعتبر فضل الله ان هذه السياسات الخاطئة كان لها انعكاسات أخرى على الإقتصاد اللبناني تمثلت في:
– عجز في الحساب الجاري ( ١٢ مليار دولار عجز )
-تمويل من الخارج وصل في ال ٢٧ سنة الماضية الى ٢٨٥ مليار دولار ، شكل عبئًا كبيرًا وديونًا هائلة على الإقتصاد في ظل غياب الإنتاجية، ما ادى الى ارتفاع كلفة التمويل الى ضعف النمو الإقتصادي، وبلغت المديونية ثلاث أضعاف الناتج.
أمام هذا الواقع، اعتبر فضل الله انه لم يبق أمام “نادي اتخاذ القرار” سوى السياسة النقدية باعتبارها “الطلقة الوحيدة” للتعويض عن غياب السياسات الاستراتيجية العامة وذلك عبر ٤ قنوات :
-زيادة اسعار الفائدة
-زيادة الإقتراض من الخارج
-مؤتمرات دولية
-هندسات مالية
وهذا ما أدى الى ارتكاب خطيئتين بحق الإقتصاد، الأولى، ان رفع اسعار الفائدة ادى الى خفض الإستثمار وخفض الناتج ما انتج علاقة عكسية بين نمو الفائدة والنمو الإقتصادي.
الخطيئة الثانية: اجتذاب الأموال من الخارج دون تأمين قنوات انتاجية لتصريفها، ما ادى الى اصابتنا ب”المرض الهولندي” او “لعنة الموارد” وأبرز عوارضها ارتفاع تكاليف الانتاج واجتذاب الموارد من القطاعات المنتجة الى القطاعات غير المنتجة (مثلا زيادة اسعار العقارات).
كذلك، أشار فضل الله إلى العوارض الاجتماعية لنمطنا الإقتصادي خصوصاً “اقتصاد الفوائد”، لافتا الى ان ٦٠ % من الايرادات الضريبية تذهب لتمويل فوائد الدين العام ، (٦ مليار دورلار تذهب الى ٢٠٠ دائن للدولة) الأمر الذي انعكس على التوازن الاجتماعي، ( ٥٦ % من المداخيل تذهب الى ١٠% من السكان)
اما المخرج المقترح فركز على أربعة مسارات أساسية متوازية “دفعة واحدة” هي:
– ضرورة اعادة رسملة المصارف ( تزيد رأسمالها ٢٠ مليار $)
– خيار دمج المصارف
– التفكير بالضريبة التصاعدية على الفوائد و على الثروة
– اعتماد نموذج مختلف يقوم على الدعم والحماية للاقتصاد الانتاجي، وانشاء شبكات امان اجتماعية لوقاية الفئات الفقيرة والمتضررة وجيوش العاطلين عن العمل.
-وضع خطة عامة لادارة السيولة في الجهاز المصرفي والمصرف المركزي والاقتصاد عموما بحسب الاولويات المتفق عليها وطنيا”، وخصوصا أولوية تأمين الدولار لاستيراد بعض الحاجات الاساسية الملحة
وختم فضل الله مداخلته مؤكدا على ان فرصة الانقاذ لا زالت قائمة، اذا سارعنا بوضع كل الامكانات والموارد على الطاولة للاستفادة منها الى أقصى حد.
– ثم كانت مداخلة د.كمال حمدان، الذي بدأ بالإشارة الى صعوبة الوضع بقوله “وضعنا صعب جدا جدا”. وعاد بالتاريخ ليؤكد أن اصل الازمة الاقتصادية الحالية يعود الى المرحلة الحريرية. ومن مظاهر الأزمة الفاقعة ان لبنان يدفع ٢٠ مليار دولار للاستيراد الاستهلاكي، وان معدلات الفائدة مرتفعة جدا، وهناك تصدير للثروة البشرية. ورأى ان النظام السياسي الطائفي هو احد الأسباب الرئيسية للأزمة الإقتصادية، باعتباره هو المسؤول عن تشريع الفساد وحمايته، و تشجيع السياسات التنفيعية الاستزلامية عبر توزيع الفتات على عشرات آلاف الأسر عبر الطغمة السياسية.
وعن بروز الأزمة في هذه المرحلة، اعاد ذلك الى توقف أربع قنوات كانت تشكل مصدرًا لدخول العملة الصعبة الى لبنان هي:
– توقف صادرات الخدمات التي يجسدها وفود السواح العرب وخصوصا من الخليج وانفاقهم على الصحة والتعليم والترفيه الخ….
– توقف تدفق اموال المغتربين اللبنانيين وتحويلاتهم التي تقدر ما بين ٧ الى ٨ مليارات دولار
– توقف القروض والهبات الدولية والتي تندرج ضمنها مؤتمرات باريس ١ و٢ و٣ (وهي ضخت اموال قروض ٣٠% كهبات و٧٠ % كقروض)
– توقف الاستثمارات الخارجية، وخصوصا العربية، وتحديدا الاستثمار في العقار ، وهي لم تتوقف فقط بل الكثير منها تمت تصفيته.
أما بالنسبة الى أزمة القطاع المصرفي فقد وصفها “بأكبر عملية نهب حصلت في الدولة” حيث وضعت المصارف ٦٠ مليار دولار في مصرف لبنان بينما يعلن الأخير أن ليس لديه الا ٣٠ مليار دولار فقط.
واعتبر أن الحل لهذه الأزمة المستفحلة لا يمكن تحقيقه خارج:
– إحداث خرق في النظام الطائفي التحاصصي،
– إعادة هيكلة الدين العام الذي سيطال ميزانية المصارف وميزانية مصرف لبنان
– قص شعر للفوائد تستفيد منها المصارف
– قص شعر الودائع الذي يفترض أن يبدأ من سقف معين وبشكل تصاعدي ( المبالغ اكثر من ٤٠٠ الف دولار)
– تحويل جزء من الودائع الى سندات بفائدة بسيطة عليها.
– اعتماد الضريبة التصاعدية، وتجنيب اصحاب الودائع الصغيرة، اي مفاعيل سلبية على ودائعهم، وان يتحمل العبء الضريبي بشكل اساسي ال ١%من اصحاب الثروات الذين يملكون ربع الدخل الوطني، وكذلك المصارف التي راكمت ارباحا فاحشة حيث كان رأسمالها في اوائل التسعينيات لا يتحاوز ٢٠٠ مليون دولار وقد اصبح حاليا بحدود ٢٣ مليار دولار، اي بزيادة بلغت ١٠٠ ضعف!!
ورأى ان ٧٠ الى ٨٠ %، من ذوي الدخل بالليرة اللبنانية سيتأثرون، اي أن الأمر لن يقتصر على الموظفين فقط.
ومن النتائج الاجتماعية لهذه الأزمة، ازدياد عدد الفقراء، وتراجع كبير في نسبة الطبقة الوسطى، واتجاه لانفكاك الفقراء المتزايدين عن التكتل الطائفي الذي كان يؤمن لهم بعض الفتات، حيث ستصل بحسب دراسة البنك الدولي نسبة الفقراء الى ٨٠ % بعد ان وصلت مع الأزمة الى ٥٢ % ( اي ١٢٠٠ دولار دخل اسرة من ٥ افراد).
واختتمت الندوة بالإجابة على أسئلة بعض الأساتذة والطلاب، واهم ما خلص اليه النقاش ان المسالة ليست مسالة فساد فقط بل هي ايضا مسألة عدم أهلية، وأن الفقر يمكن التعايش معه أحيانا، لكن الظلم الإجتماعي الذي أنتج الفقر هو الذي دفع الناس للتحرك، وان تضامنًا حقيقيًا وجديًا بين كل القوى المناهضة للفساد، وتغييرًا في بنية النظام الطائفي هما من المداخل الأساسية لحل الأزمة.